كلمة معالي رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية في الحفل الافتتاحي للنسخة الثانية والعشرين من منتدى الدوحة تحت عنوان "حتمية الابتكار"
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد حفظه الله
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة
السيدات والسادة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يسرني أن أرحب بكم جميعاً في دولة قطر، حيث نحتفي معكم بانعقاد النسخة الثانية والعشرين من منتدى الدوحة، هذا المنتدى الذي تجاوز كونه فضاءً لتبادل وجهات النظر ، ليصبح منصة عالمية لجمع القادة ، ومواجهة التحديات العالمية وإعادة تعريف الحلول في زمن تتشابك فيه التحديات وتتعقد فيه المسارات. ففي عالم تسارعت فيه الأحداث وتعاظمت فيه الأزمات بشكلٍ غير مسبوق، علينا العودة إلى المبادئ الأساسية مع ابتكار حلول جديدة للسلام والاستقرار والتنمية .
ومن هنا أتى خيارنا لشعار منتدى الدوحة لهذا العام، "حتمية الابتكار"، إدراكاً منا لعمق التحديات التي تواجه الإنسانية، وحاجة العالم إلى رؤية جديدة تستشرف المستقبل، وتواجه الواقع بفعالية. فالعودة إلى الحقائق الجوهرية، ثم معالجة المشكلات المستعصية بروح إبداعية، أصبحت حاجة مُلحة. ولقد أثبتت التجارب السابقة أن التمسّك بالنهج التقليدي في التعامل مع الأزمات المستعصية لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج التحديات ذاتها، وربما تفاقمها.. ولذا، فلا بد من التوجّه نحو حلول مبتكرة لمختلف القضايا الأساسية، السياسية منها والأمنية والبيئية وغيرها، بدءاً من الأسباب الجذرية مع مراعاة المبادئ والاستفادة من الأدوات المتاحة واستكشاف الفرص التي توفرها التقنيات الناشئة.
الحضور الكريم،
نجتمع اليوم والعالم يقف على مفترق طرق مصيري: إما الاستسلام لدوامة العنف التي تعصف بالعديد من المناطق في أنحاء العالم، بما فيها منطقتنا هذه، وإما ابتكار أساليب وحلول جديدة تضمن ليس فقط إنهاء العنف الراهن فحسب، بل تعمل على تأسيس أرضية صلبة للسلام المستدام والازدهار العادل الذي يضمن الاستقرار للأجيال القادمة.
ولا شك أن ما نشهده في غزة اليوم يمثل نموذجاً صارخاً لهذه الدوامة العنيفة و مأساة إنسانية غير مسبوقة بل إبادة جماعية تجري أمام أعيننا، سيكون لها تداعيات خطيرة تهدد استقرار المنطقة بأكملها، والتي ظهرت في أبرز صورها في لبنان، ما يدفعنا إلى توجيه أسئلة جوهرية حول فاعلية الأساليب التقليدية في التعاطي مع النزاعات، وتزداد هذه الأسئلة إلحاحاً مع مرور كل يوم.
السيدات والسادة
تستمر المأساة الإنسانية في غزة، وتمتد تداعياتها إلى لبنان وسوريا، مما يحتم بذل كل جهد ممكن لوضع حد فوري لها. ولقد أثبتت تجربة الهدنة المؤقتة التي تحققت بجهود وساطة مشتركة من دولة قطر وجمهورية مصر العربية والولايات المتحدة، وأدت إلى إطلاق سراح الرهائن وتخفيف المعاناة الإنسانية، إمكانية نجاح العمل الدبلوماسي متى ما توفرت الإرادة اللازمة. وتعزز هذا النجاح بإنجازات أخرى لدولة قطر، كلمّ شمل الأطفال المتأثرين بالحرب الروسية الأوكرانية مع ذويهم، مما يقدم نموذجاً علمياً لقدرة الدبلوماسية المبتكرة على تحقيق نتائج ملموسة.
إن هذه النجاحات تعكس رؤيتنا في التعامل مع الأزمات بنظرة شمولية تتمحور حول الإنسان وتستوعب الصراع من جوانبه المختلفة الإنسانية والاقتصادية والسياسية والميدانية وتبحث في الحلول الجزئية التي تقود إلى معالجة شاملة وتقسم جذور الصراع ومسبباته إلى ملفات يمكن التعامل معها.
ولقد أظهرت الأزمات المتلاحقة، حجم الفجوة بين الأساليب والمنظومات التقليدية من جهة، والتحديات المعاصرة المتسارعة من جهة أخرى. فالعالم اليوم في أمس الحاجة إلى مؤسسات مطوّرة للتعاون الدولي، تتجاوز الأٌطر التقليدية وتعتمد مبادئ العدالة والشمولية، مع الاستفادة من أدوات العصر الرقمي.
الحضور الكريم،
لا بد لنا من وقفة جادة وصريحة أمام متغيرات عصرنا. فنحن نعيش في عصر يشهد تقدماً تكنولوجياً هائلاً، وتأتي هذه التقنيات المتقدمة التي يزخر بها عصرنا، رغم إمكاناتها الهائلة، بتحديات وتهديدات ناشئة مثل إمكانية إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي والتمويل الرقمي والمركبات الجوية والبحرية غير المأهولة وغيرها من التقنيات والابتكارات الجديدة. ولذلك ينبغي اتخاذ كل ما يمكن من أجل ضمان أن تظل هذه التقنيات أدوات لدفع عجلة التطور الاقتصادي ووسائل لتعزيز السلام ورفاه الإنسان. غير أن المفارقة المؤلمة تكمن هنا: كيف يمكن لعالم يتباهى بإنجازاته التقنية أن يقف عاجزاً أمام معاناة المدنيين في مناطق النزاع؟ وكيف لمجتمع دولي يتحدث عن الابتكار أن يفشل أو يعجز عن إيجاد آليات فعالة لحماية الأرواح وضمان وصول المساعدات الإنسانية؟
الحضور الكريم،
إن حضوركم في هذا المنتدى، من صناع القرار والمبتكرين والمفكرين وقادة المجتمع المدني، يؤكد إيماننا العميق بأن الحلول المبتكرة تنبع من تفاعل الأفكار وتكامل الرؤى والخبرات. فمنتدى الدوحة ليس مجرد منصة للحوار فحسب، بل يمثل منبراً للإبداع ومختبراً للأفكار الخلّاقة ونقطة انطلاق للحلول المبتكرة التي نحتاجها اليوم.
نحن قادرون على تعزيز الارتكاز على أسسنا الأخلاقية وإيجاد حلول لتحديات اليوم بفكر متجدد ورؤية مبتكرة، ففي زمن التحولات الكبرى، لم يعد التجديد خياراً، بل أضحى ضرورة وجودية للبقاء والتقدم، والحاجة – كما يُقال – هي أم الاختراع ... ليس فقط في مجالات العلوم والهندسة، بل في صناعة السلام والعمل الدبلوماسي أيضاً. فالمؤسسات والدول التي تتمسك بأساليب الماضي وأدواته، ستجد نفسها خارج دائرة التأثير في مجريات الأحداث وتطوراتها، غير أن الابتكار الحقيقي يجب أن يظل موجهاً لخدمة الإنسانية جمعاء، ساعياً نحو تحقيق السلام والعدالة والرخاء للجميع دون استثناء.
أدعوكم في هذا المنتدى إلى استكشاف آفاق جديدة للعمل المشترك. فمستقبلنا رهن بقدرتنا على الابتكار في سبيل السلام والتنمية المستدامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.