الكلمة الافتتاحية لمعالي رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية في النسخة السابعة من منتدى الأمن العالمي
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
أرحب بكم جميعاً في الدوحة بمناسبة انعقاد النسخة السابعة من منتدى الأمن العالمي، تحت شعار "تأثير الجهات الفاعلة غير الحكومية على الأمن العالمي".
في هذا الوقت، يكتسب هذا المنتدى أهمية استثنائية، إذ يجمعنا في لحظة يحتاج فيها العالم - أكثر من أي وقت مضى - إلى حوار عميق وصادق، وإلى شراكات مبتكرة قادرة على مواجهة تحديات عالمنا المضطرب.
الحضور الكرام،
يشهد نظامنا الدولي اليوم تحولات جذرية تفرض علينا إعادة تقييم مفاهيمنا حول الأمن والاستقرار.
ولم تعد الصراعات أحداثاً عابرة يمكن احتواؤها، بل تحولت إلى ظواهر ممتدة تتوالد وتتداخل، فارضةً على العالم أزمات متشابكة يغذي بعضها بعضاً – من أوكرانيا إلى غزة، مروراً بالأزمات المتعددة في منطقتنا.
وفي قلب هذا المشهد المعقد، نرى استمرار النزاعات وامتدادها زمنياً وجغرافياً دون آفاق واضحة للحلول، نتيجة غياب الإرادة السياسية الجماعية، وتغليب المصالح الضيقة على متطلبات السلام العادل والشامل.
وهذا الاستمرار يخلف وراءه أجيالاً كاملة تنشأ في ظل العنف واليأس وفقدان الأمل، وهو ربما الأثر الأكثر خطورة لهذه الصراعات.
فأطفال غزة وسوريا والسودان وأوكرانيا ليسوا مجرد أرقام في تقارير المنظمات الدولية، بل هم مستقبل مجتمعاتنا، ومرآة لمدى نجاحنا أو فشلنا في صناعة عالم أكثر أمناً وإنسانية.
وحتى لو توقفت الحروب غداً، سنجد أنفسنا أمام تحدي إعادة الإعمار الهائل - ليس فقط لإصلاح الدمار المادي، بل أيضاً لإعادة بناء المجتمعات على المستويات الاجتماعية والنفسية.
وفي ظل تعدد الأزمات وتراجع التمويل الدولي، تبدو ملفات مثل إعادة إعمار سوريا أو غزة وكأنها أصبحت أحلاماً مؤجلة على أجندة المجتمع الدولي.
لذلك، فإن رؤيتنا للحل لا تنحصر في وقف إطلاق النار وإنهاء الحروب فحسب، تمتد إلى بناء أسس متينة للتعافي الشامل والمستدام، بمسؤولية جماعية والتزام دولي حقيقي.
السيدات والسادة،
في خضم هذه التحديات المتشابكة، برز دور المنظمات الإنسانية، ومؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات الإعلامية والمبادرات المحلية كعنصر محوري في معادلة الأمن والسلام.
هذه الكيانات أصبحت تشكل خط الدفاع الأول في الاستجابة للأزمات، متجاوزة فيها في كثير من الأحيان، القيود البيروقراطية والسياسية التي تكبل الجهات الرسمية.
لكن في الجانب الآخر، نواجه الفواعل من غير الدول التي تستغل الفراغات الأمنية وتتغذى على الفوضى والمعاناة، سواءً من الجماعات الإرهابية إلى شبكات جريمة منظمة.
وتتخذ التصرفات المارقة لبعض الدول، التي لا تواجه إلا بنزر يسيير من الحكمة والكثير من الضعف والتراخي من بعض الحكومات، وريعة للتغلغل في وجدان الشعوب واختطاف دور المدافع الأوحد عن حقوقهم.
وفي خضم هذا المشهد المأزوم، تغيب الحقيقة، ويتناثر اللوم: أهي الدول المارقة أصل الداء أم الحكومات الضعيفة عن أداء واجبها ام الحكمة التي غدت عملة نادرة في زمن اختلطت فيه المعايير واضطربت الموازين؟
وهنا تكمن أهمية موضوع منتدانا هذا العام - فالحدود بين البناء والهدم، بين من يسعى للسلام ومن يستثمر في الحرب، يجب أن ترسم بوضوح ودقة.
التعامل مع هذه التحديات يستدعي مقاربة ذكية ؛ تدعم وتمكّن القوى الإيجابية، وتحاصر وتجفف منابع المنظمات و المجموعات الإرهابية و الإجرامية التي تستغل معاناة الشعوب لتحقيق أجنداتها الخاصة.
ولن يتحقق ذلك إلا من خلال حوكمة عالمية أكثر شمولاً، وشراكات استراتيجية بين الحكومات والمجتمع المدني.
الحضور الكريم،
إن ما يجري في قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف يقدم لنا دروساً مؤلمة حول هذه الديناميكية.
فوسط دمار غير مسبوق وكارثة إنسانية تجاوزت كل الخطوط الحمراء، للمنظمات الإنسانية والمبادرات المحلية دور بالغ الأهمية في إبقاء شريان الحياة متدفقاً، وفي نقل معاناة المدنيين إلى العالم، وحتى في المساهمة بجهود الوساطة والمفاوضات.
وأكثر ما يؤلم، ويمثل وصمة عار على جبين العالم كله، أن الغذاء والدواء بات سلاحاً في هذه الحرب، فيستغل موت الأطفال جوعاً وبرداً سلاحاً لتحقيق مآرب سياسية ضيقة، ويحاصر شعب بأكمله ويمنع عنه أبسط الحقوق في وصول المساعدات إليه دون محاسبة.
ودولة قطر ستواصل، بالشراكة مع جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية، والشركاء الإقليميين جهودها الحثيثة للتوصل إلى وقف دائم وشامل لإطلاق النار في غزة، وتأمين تدفق المساعدات الإنسانية بلا عوائق.
ونؤكد أن دعم الشعب الفلسطيني ليس موقفاً سياسياً قابلاً للمساومة، بل التزام أخلاقي وإنساني ينبع من قيم العدالة التي نؤمن بها.
السيدات والسادة،
رغم قتامة المشهد العام، تلوح بوادر إيجابية يجب التمسك بها وتعزيزها.
- في سوريا نرى الدولة التي يعاد بناؤها وشعب يعمل على رسم صورة جديدة لبلاده مع إدراك دقة المرحلة والحاجة إلى خطاب وطني جامع.
- وفي لبنان، يمثل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة فرصة لإعادة إحياء المؤسسات وتعزيز الثقة بالدولة ومستقبلها، شريطة أن يتزامن ذلك مع إصلاحات جوهرية وإشراك حقيقي للمجتمع المدني.
كما أننا نلحظ بوادر إيجابية مشجعة، كما شهدناه مؤخراً هنا في الدوحة، عبر استضافة محادثات السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية رواندا، والتي أسفرت عن التوصل إلى تفاهمات مبدئية لوقف إطلاق النار، وخفض التصعيد، وتعزيز بناء الثقة.
هذه النماذج تبرز كيف يمكن للمسارات الرسمية والمبادرات المجتمعية معاً أن تساهم في تهيئة بيئة داعمة للمصالحة الوطنية والاستقرار الإقليمي.
التجارب المتنوعة التي نشهدها تؤكد حقيقة أساسية: الأمن الدائم لا يتحقق بالقرارات الفوقية وحدها، بل ببناء مجتمعات متماسكة قادرة على الصمود، من خلال توسيع الشراكة وتفعيل دور جميع مكونات المجتمع في صناعة المستقبل.
الحضور الكريم،
لطالما كانت دولة قطر ملتزمة بمبدأ الحوار كوسيلة أساسية لحل النزاعات وبناء السلام.
ونحن نؤمن أن التعامل البناء مع المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية، يشكل جزءاً لا يتجزأ من أي جهد جاد لتحقيق الاستقرار المستدام.
من خلال تجاربنا المتعددة في الوساطة وحل النزاعات، أدركنا أن بناء السلام الحقيقي يتطلب فتح قنوات حوار مع جميع الأطراف المؤثرة، واحترام خصوصيات كل مجتمع، والاعتراف بالمظالم التاريخية، والعمل على معالجتها بروح من العدالة والمصالحة.
رغم كل التحديات التي نواجهها، أؤكد أن الأمل لا يزال خيارنا.
وأن القدرة على التغيير الإيجابي لا تزال في متناولنا، إذا توافرت الإرادة الصادقة، وإذا تمكنا من تجاوز الحسابات الضيقة، وإذا وضعنا الإنسان - بكرامته وحقوقه وتطلعاته - في قلب كل سياسة وكل مبادرة.
نحن في دولة قطر ملتزمون بمواصلة دورنا كشريك فاعل في جهود السلام والتنمية، من خلال دعم الحلول السياسية للنزاعات، والعمل الإنساني، وبناء شبكات أمان تحمي المجتمعات من التطرف والعنف.
ونتطلع إلى أن يكون منتداكم هذا منصة للأفكار المبتكرة والحلول العملية، وخطوة نحو شراكة أوثق بين الحكومات والمجتمعات، من أجل عالم أكثر أمناً وعدلاً، وأكثر احتراماً لكرامة الإنسان.
وأتمنى لكم مناقشات مثمرة، وأشكركم على حسن استماعكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،