السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,
السيدات والسادة،,
أشكركم جزيل الشكر يا أصحاب السعادة على هذا التقديم الطيب.
يشرفني كثيرا أن أكون هنا في سنغافورة، وأن أخاطب مثل هذا الحضور الكريم. وأشكر كذلك جزيل الشكر معهد الشرق الأوسط ومديره البروفسير هو والبروفسير تان إنغ تشاي نائب رئيس جامعة سنغافورة الوطنية التي تعتبر الأرقى آسيويا على دعوتهم لي لحضور هذا المحفل الفريد.
هذه أول محاضرة تُلقَى في معهد الشرق الأوسط منذ الرحيل المؤسف القريب لسعادة إس آر ناثان الرئيس السابق لجمهورية سنغافورة، وبالإنابة عن حكومة دولة قطر يسرني أن أعبر عن تعازي القلبية لحكومة وشعب سنغافورة في هذا الفقد الكبير.
هذه في الواقع أول زيارة لي إلى سنغافورة بصفتي وزيرا للخارجية في دولة قطر، ولكن لا بد أن أشير إلى أنه قد سبقني بزيارة بلدكم الكريم حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر في مارس الماضي عندما جاء شخصيا ليقدم تعازيه في وفاة خالد الذكر السيد لي خوان يو مؤسس جمهورية سنغافورة وأول رئيس وزراء لها. اعتبر سمو أمير قطر أن السيد لي أحد أعظم الرواد وأصحاب الرؤى الثاقبة في عالم اليوم، وأراد أن يقدم تعازيه بصورة شخصية في فقده.
شعرت بسرور خاص عندما تلقيت الدعوة لمخاطبة هذا الجمع اليوم في معهد الشرق الأوسط لأن ذلك يتيح لي الفرصة للقاء قادة الحكومة ودوائر الأعمال ومناقشة بعض القضايا الهامة في الشئون السياسية التي تعتبر حيوية بالنسبة لشعبينا.
ولكني أيضا، وبطريقة يمكن وصفها بالأنانية، سررت بالفرصة التي أتيحت لي لقضاء وقت أطول في سنغافورة. وليس سرا أن نقول أن الكثيرين منا في منطقة الخليج العربي يشعرون بإعجاب كبير لما حققتموه في سنغافورة من إنجازات. إن ما حققتموه بالرغم من كل التحديات يعتبر دون شك نموذجا يُحتذي لشعوبنا الفتية والنامية في شبه الجزيرة العربية ولجميع الدول النامية في جميع أنحاء العالم.
كما قد يعلم الكثير منكم فإن قطر وسنغافورة ترتبطان بعلاقات صداقة طويلة المدى. فقد أصبحت ميناؤكم التي تعتبر الأكبر في منطقة الآسيان مركزا استراتيجيا هاما لصادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال، وأصبحت قطر الآن ثالث أكبر شريك تجاري لسنغافورة في الشرق الأوسط.
أنا فخور أيضا بحقيقة أن الشركات القطرية لها تمثيل جيد هنا في سنغافورة. فلدى بنك الدوحة فرع هنا منذ عام 2006، وبنك قطر الوطني موجود هنا منذ عام 2008، وأوريدو Ooredoo"" وهي شركتنا الوطنية المسئولة عن توفير خدمات الاتصالات تملك حصة في شركة ستارهب ""StarHub، وشركة الخطوط الجوية القطرية تسيِّر الآن ثلاث رحلات يومية بين مطار حمد الدولي ومطار شانغي.
جهاز قطر للاستثمار، وهو صندوقنا السيادي، لديه أيضا نشاط في سنغافورة، ويدير استثمارات طويلة المدى مصممة لتأمين دخل ثابت لمواطنينا لأجيال تأتي. تعتبر هذه الاستثمارات أيضا بمثابة "اللاصق" الذي يلصق بلدينا بعضهما ببعض كشريكين تجاريين دائمين.
ولكن قطر وسنغافورة لديهما ما يربطهما أكثر من التجارة والأعمال، فكلانا دولتان ناشئتان وصغيرتان جغرافيا. فقطر مثل سنغافورة تعلم أن مستقبل دولتينا يعتمد على عنصرين أساسيين: الحكم الرشيد وتطوير أغلى مواردنا، ألا وهو العنصر البشري.
وكما قال السيد لي كوان ذات مرة: إن الأمم لا تصبح عظيمة بحجمها فقط، بل بالتلاحم وقوة التحمل والانضباط لدى شعوبها وبصافات قادتها التي تؤمِّن لها ماكنة رفيعة بين الأمم وذكرا كريما في التاريخ.
فنحن مثلكم قد اتبعنا سياساتٍ تجعل حكومتنا مساءلة لدى شعبنا، وذات شفافية في صنعها للقرار. نعم نحن دولة ذات نظام ملكي، ونفخر بذلك، ولكننا قد طورنا شكلاً من أشكال حكومة شورية تستجيب لاحتياجات شعبنا، وتتمتع بمستوىً من التأييد والشرعية اللذان لا تملك معظم الحكومات غير التطلع إليهما.
لقد عززنا المساواة بين الجنسين، وإنني لأفخر إذ أقول أن المرأة عندنا تشغل مناصب قيادية وتنفيذية عليا في الحكومة وفي القطاع الخاص. ونعم، فإن المرأة في قطر تقود السيارة – فقد طُرح علي هذا السؤال مراتٍ عديدة!
وهنالك زيادة كبيرة في عدد النساء المقبولات بالجامعات - فعدد البنات اليوم يفوق عدد الأولاد- مما يبشر بالخير لمستقبل المساواة بين الجنسين .
التعليم، في حقيقة الأمر ، أحد العوامل الهامة الدافعة لتنمية رأس المال البشري. نحن نعلم بأن اقتصادنا القائم على الكربون لن يدوم إلى الأبد، وأنه ينبغي علينا أن ننتقل للاقتصاد القائم على المعرفة حتى يتسنى لنا توفير مستقبلٍ مستدام لأطفالنا وأحفادنا. فبدون التعليم المتقدم والعالي الجودة لا يمكن تحقيق التقدم. نحن في قطر ندرك ذلك لذا فقد جعلنا التعليم إحدى أولوياتنا.
ما فعلتموه أنتم هنا في جامعة سنغافورة الوطنية فعلناه نحن في المدينة التعليمية بالدوحة. هناك جامعات كبرى من أرجاء العالم تتقاسم حرماً جامعياً كبيراً جداً يتيح للطلاب دراسة أي شيء من العلوم السياسية وإلى العلوم البحتة، ومن الآثار إلى المعمار. نعم، هنالك سؤالٌ آخر كثيراً ما يُطرح علي – طلابنا يتمتعون بنفس فرص حرية التعبير وحرية السؤال مثل تلك التي يتمتعون بها في حرم تلك الجامعات في مواطنها الأصلية في أمريكا والمملكة المتحدة وفرنسا.
إننا نتبع هذا المسار لأننا نريد تربية أولادنا بأن يكونون مواطنين في عالمٍ مترابط، فيه مدن كالدوحة وسنغافورة يمكن أن تجذب القيادة والموهبة من أرجاء العالم، وتقدم فرصاً لا تُضاهى للتمازج الثقافي والاقتصادي. وهذا ما يعنيه أن تكون "مركزاً" في القرن الحادي والعشرين.
بل وإننا قد جعلنا التنمية البشرية في صميم سياستنا الخارجية بتقديمنا للعون والمساعدات التنموية – بل وحتى بتقديمنا لخدماتنا في الوساطة – كتدابير فعالة للمساعدة في تفادي الصراعات المستقبلية.
لقد سعدت بأن أقرأ في الموقع الإلكتروني لمعهد الشرق الأوسط بأنكم تصفون سنغافورة "بمفترق طرق العالم " مثلما نصف نحن قطر. وكمحايد، فقد أثار اهتمامي بأن أرى أن خطابكم قد أشار إلى الشرق الأوسط بعبارة " غرب آسيا" – فلا عجب – فإن ذلك يضع سنغافورة مباشرةً في قلب آسيا! وأنا على يقين بأن كل أمةٍ وكل ثقافة ترى نفسها بأنها مركز العالم. ونحن في قطر لسنا استثناء.
بيد أننا في "غرب آسيا" تعلمنا بأن العمل المشترك مع العالم يتطلب قبول التنوع واحترام ثقافات الأقليات، فنحن بلد عربي ومسلم يرحب بالناس من كافة المعتقدات والأعراق. وهذا بالمقابل، قد سمح لنا بالعمل المشترك مع الكثير من بلدان آسيا ..وقد أصبحوا شركاءنا التجاريين، وحلفاءنا السياسيين، وأصدقاءنا.
لقد عملنا كذلك من أجل الحفاظ على صداقاتنا وشراكاتنا مع جيراننا عبر شبه الجزيرة العربية.
ولكن بالطبع فإن هذه الأزمان أزمان صعبة. وأنا أعلم بأن الكثيرين منكم يتابعون التطورات في الشرق الأوسط عن كثب، لذا فإنني أود أن أنتقل إلى مناقشة بعض التحديات التي نواجهها، بما في ذلك بالطبع الأزمة الحالية في سوريا.
ولكن قبل أن أفعل ذلك، لعله من المفيد أن أذكر بوجهٍ عام مبادئ وأهداف السياسة الخارجية لقطر .
إننا بوجهٍ عام نسعى إلى تحقيق الآتي:
- النهوض بالسلام والأمن الدوليين بتشجيع الحلول السلمية للنزاعات الدولية. (يدعم هذا سياسة " الباب المفتوح" التي سوف أتحدث عنها بعد قليل..)
- دعم الحق في تقرير المصير (وهذا ينطبق بشكل واضح على فلسطين، ولكن أيضا له صلة بوجهات نظرنا بشأن الربيع العربي وعلى الثورات المضادة التي اتبعت ...)
- الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى (إذا كنا نتوقع من الآخرين احترام سيادتنا علينا أن نحترم سيدة الدول الأخرى ...)
- التعاون مع جميع الدول الساعية للسلام.
منذ أن نالت قطر مقعداً لمدة عامين في مجلس الأمن للأمم المتحدة في عام 2006 كانت أمتنا وسيط نشط في الصراعات عبر الحدود وفيما بين الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشرق أفريقيا. هدفنا كان دائما للحفاظ على السلام والأمن العالميين وتعزيز العلاقات الطبيعية مع جميع الجهات الحكومية وغير الحكومية.
خلال جميع جهودنا في الوساطة نشعر بأننا تمكنا من تحقيق نجاح كبير لأننا نبقى أبوابنا مفتوحة دائما لجميع الأطراف في أي نزاع. واليوم قد نالت الدوحة سمعة باعتبارها "المنطقة المحايدة" حيث يمكن لفتح التحدث مع حماس وحيث يمكن للولايات المتحدة التفاوض مع طالبان وحيث يمكن للفصائل المتناحرة حل خلافاتها.
ليس هناك من ينكر الحقيقة بأن الربيع العربي والثورات المضادة التي تلت حولت منطقة الشرق الأوسط رأسا على عقب. وفي الواقع أدت أحداث السنوات الخمس الماضية إلى أهم التغيرات في المشهد السياسي والجغرافي لمنطقة الشرق الأوسط منذ اتفاقية سايكس بيكو.
برأينا نرى للأسف أن الثورات المضادة في العديد من الدول العربية قد عكست المكاسب الأولية لحرية الشعب التي حققتها السنوات الأولى من الحركة. والأسوأ أنه أُزهقت مئات الآلاف من الأرواح ... بجانب آمال وأحلام جيل كامل. وفي الوقت نفسه لا يزال بشار الأسد يحتجز المجتمع الدولي رهينة لرغبته في البقاء في السلطة بأي تكلفة بشرية.
ولا يوجد مكان أكثر وضوحا لهذا من حلب، المحاصرة دون رحمة من قبل نظام الأسد لأشهر متتالية. اضطرت قطر لإغلاق مركزها الصحي هناك في نهاية الأسبوع الماضي بعد أن ضربت منشأتنا مرارا بالقنابل. قتل اثنان من المرضى وأصيبوا ثمانية ودمرت نصف العيادة في ما وصفه الدكتور هشام درويش من الهلال الأحمر القطري بأنه "جريمة حرب".
إن الاخبار المتداولة عن الجبهة الدبلوماسية عارية من الصحة. كما تعلمون فإن المناقشات بين الولايات الامريكية المتحدة وروسيا حول وقف اطلاق النار في حلب قد باءت بالفشل مما ادى الى ترك مئات الالاف من المدنيين تحت خطر مميت.
سيداتي وسادتي, إن الضمير الانساني تحت تأثير صدمة العنف الغير انساني الحالي. وينبغي على المجتمع الدولي التدخل وإيجاد حل لإنهاء القتال في سوريا. كما يجب علينا الإطاحة بمجرمي الحرب كأمثال بشار الاسد الذي ارتكب المجازر بحق شعبه والزج به في قبضة العدالة. واذا لم تتطوع او لم تقدر القوى العالمية على إنهاء القتال في سوريا, فيجب على مجلس الامن الدولي ان يتدخل. لا يمكن ان تقف الانقسامات الطائفية والجغرافيا السياسية عائقا في طريق السلام.
ولهذا فنحن نعرف ان كلما طالت مدة الحرب كلما زاد اهدار الموارد البشرية ومن المرجح ان الشباب اليائسون والفاقدون للأمل سيلجؤون للتطرف وستجذبهم المخيمات الارهابية. وكما نرى, لا يعرف الارهاب اي حدود. حيث قام الشباب في اوروبا وامريكا الشمالية وأفريقيا وحتى الشباب في اقصى الشرق بتبني قضية التطرف مقتدين بالمتطرفين في الشرق الاوسط. ويشكل هؤلاء المتطرفون تهديدا لنا في الدوحة وتهديدا لكم في سنغافورة.
وبالأكيد, سيتحتم علينا خوض بعض المعارك في المستقبل القريب. قد تكون الدولة التي تلقب نفسها بالدولة الاسلامية تتخبط الان, ولكنها لازالت لم تهزم ومازال الطغاة امثال بشار الاسد في محل سلطة وقوة.
ولكن للمدى البعيد, نشعر ان تركيزنا على الادارة الجيدة وتطوير الموارد البشرية سينتصر في النهاية. وبكفلنا لأسس الادارة الشفافة وتقوية التزامنا بالقانون, سنلبي احتياجات مواطنينا. وبخلق فرص اكثر تتيح لشعبنا اظهار طاقاتهم الكامنة سنضعف منطق المتطرفين.
تتشارك كل من قطر وسنغافورة الالتزام بالإدارة الجيدة وتطوير الموارد البشرية وهذه عبارة عن قيم مشتركة تشكل أسس صداقتنا وشراكتنا.
سيداتي وسادتي, شكرا لكم لإتاحة الفرصة لي للتحدث لهذا الجمع الكريم واشكركم مرة أخرى لمنحي الفرصة لقضاء وقت في سنغافورة. أتمنى أن تكون هذه الزيارة بداية لزيارة أخرى سأقوم بها كممثل لدولتي.
وأتمنى الآن أن يكون هناك ما يكفي من الوقت للإجابة على استفساراتكم.